Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
References for this paper are not available at this time. We will be adding them shortly, thank you for your patience.
المقدّمةكتب أبو القاسم الشابّي (1909–1934) قصيدة ”إرادة الحياة“ في 16 سبتمبر 1933، وهي القصيدة التي اشتُهر منها مطلعها: (المتقارب)1فسار بين الناس حتّى صار ذكرُ اسم الشابّي مدعاةً لاستحضار البيتين الأوّلين. وقد وصف أحد النقّاد القصيدة، لجودتها ونفاستها، بأنّها ”معلّقة الشابّي.“2وحين نتتبّع تاريخ تداول مطلع القصيدة بين الناس نلاحظ ما يدعو إلى التفكير؛ فقد ضُمّن هذان البيتان سنة 31955 في نشيد الثورة الذي كان قادة الكفاح الوطنيّ في تونس ينشدونه في اجتماعاتهم، ثمّ أصبح جزءًا من النشيد الرسميّ التونسيّ إثر تغيير النشيد القديم للدولة التونسيّة سنة 1987 مع تغيير رأس السلطة السياسيّة،4 وفجأة، يعود البيتان سنة 2011 في صيغة شعار ثوريّ (”الشعب يريد …“) في أثناء ما سُمّي بالربيع العربيّ منطلِقًا من تونس إلى ميادين أخرى من بلاد العرب وغير العرب.5 ونحتاج إلى كثير من الإيمان بالصُّدَف لنعدّ الأمر خاليًا من أيّ دلالة ثقافيّة أو أدبيّة، فمن البيّن أنّ السياقات التاريخيّة الأربعة، أي سياق بداية الثلاثينات فأواسط الخمسينات فأواخر الثمانينات ثمّ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، كانت سياقات تتميّز بأزمات وإرهاصات بتحوّلٍ ما.6 وإذا ربطنا بين المضمون المتفائل في البيتين وهذه السياقات أمكننا أن نرى تواشجًا بين ما يبعثانه في النفوس من آمال عراض في التغيير والفعل في التاريخ (الصباح بديلًا من الليل، والحرّيّة بديلًا من القيد) وما في تلك السياقات من أمل في تجاوز ”ليل“ الظلم و”قيد“ الاستعباد.إنّنا أمام بيتين يمثّلان بوضوح ما في بعض الشعر من طاقة على شحن الناس بالإرادة والأمل،7 وهو أمل في حياة أخرى مطلوبة تقتضي واقعًا باعثًا على اليأس غير مرغوب فيه. ولعلّ في مثل هذه الأبيات من مدوّنة الشابّي ما سمح لبعض النقّاد بوصف صاحبها بالشاعر الوطنيّ وبشاعر الثورة8 مثلًا. غير أنّ قراءةً شاملة لديوان الشابّي تكشف عن أبيات أخرى مناقضة لهذا الإيمان القويّ بالشعب وقدراته على الفعل في التاريخ، من ذلك مخاطبته للشعب في قصيدة ”النبيّ المجهول“ التي كتبها في 21 جانفي 1930 قائلًا: (الخفيف)9ثمّ أضاف بعد ذلك يرثي حال الشعب:ومن اليسير على القارئ المتعجّل أن يحلّ هذا التناقض10 بأخذ تاريخَيْ كتابة القصيدتين بعين الاعتبار، فيعدّ المسألة قائمةً على تطوّر في نظرة الشابّي،11 غير أنّ ما يمنع مثل هذا التأويل أنّ عالم الشابّي الشعريّ منقسم فعلًا إلى نظامين متضادّين يمكن أن نَصِف أحدهما بنظام الأمل (ومنه قصائد من قبيل ”يا ابن أمّي“) ينتشر فيه السرور والانتشاء والغبطة (Euphorie)، ونَصِفَ الآخر بنظام اليأس (ومنه قصيدة ”إلى قلبي التائه“) ينتشر فيه الشقاء والأسى والكآبة (Dysphorie).12 ولهذين النظامين تفسير في الخيال الباني لشعر الشابّي لا نحتاج معه إلى ترتيب تاريخيّ للقصائد.والذي يعنينا أكثر من هذه المعطيات الأولى أنّ التفسير المضمونيّ لشهرة بيتَي الشابّي على اعتبار ما يحملانه من إيمان بالشعب وقدرته على التغيير، علاوة على التفسير السياقيّ الممكن الذي يجعلهما مناسبين لمراحل التحوّل والخروج من الأزمات، لا يسوّغان، في تقديرنا، أنّهما من الأبيات التي احتفظت بها ذاكرة قرّاء الشابّي. فلئن كنّا لا ننفي ما للمضمون القائم على الأمل وسياق التحوّلات من دور فإنّهما عندنا يحتاجان بدورهما إلى تفسير معقول. وافتراضنا الذي ننطلق منه للوصول إلى التفسير المنشود هو أنّ للقصيدة كثافةً13 استعاريّة وتخييليّة انبنت عليها دلالتُها ومكّنت لها في التصوّرات النفسيّة الإنسانيّة فجعلتها أنفذ في القلوب وأشدّ وقعًا، وما التحليل الذي سنقدّمه إلّا استدلال على هذه الفرضيّة.وأوّل ما نحتاج إليه في هذا الاستدلال أمران: أحدهما تنزيل المطلع في سياق قصيدة ”إرادة الحياة“ كلّها بما أنّ آخر بيت فيها يستعيد المطلع في ضرب من الدور الذي لا يخلو من دلالة،14 ولكنّ القصيدة نفسها لا تخرج عمّا أسميناه مؤقّتًا نظام الأمل (بما فيه من غبطة وانتشاء وسرور) في شعر الشابّي؛15 وثاني ما نحتاج إليه هو الإطار النظريّ المناسب للاستدلال على الفرضيّة المذكورة. فلمّا كنّا نبحث في النسق الاستعاريّ التصوّري فقد اعتمدنا الأنموذج الذي ابتناه لايكوف (Lakoff) وجونسن (Johnson) في ”الاستعارات التي نحيا بها“ لأسباب سيكشفها التحليل.16 ولمّا كنّا نبحث في النسق التخييليّ الرمزيّ المولِّد للبيتين وللقصيدة ولنظام الأمل نفسه عند الشاعر اتّخذنا تحليل جلبار دوران (Gilbert Durand) لصور الخيال إطارًا نظريًّا ثانيًا لنا واعتمدنا مفهوم الرمز لديه لدعم ما افترضناه عن شعر الشابّي.17 ومجرى هذين الاختيارين واحد في تقديرنا. فقد زعمنا منذ العنوان أنّ للأمل بلاغةً بمعنى كيفيّة في إجراء الشابّي للتصوّرات الاستعاريّة والرموز المشتركة في الخيال الإنسانيّ لبناء متصوّر الأمل الذي ندركه حدسيًّا من مطلع قصيدة ”إرادة الحياة،“ وإن كانت العلاقة بين البَنْيَنة الاستعاريّة، وهي خياليّة كذلك، والبناء الخياليّ الرمزيّ تفتقر إلى تأسيس نظريّ ليس هذا المقال، في حدوده المرسومة له، مناسبًا له.1البنية الاستعاريّة التصوّريّةنحلّل في هذا القسم الأوّل من البحث البناء الاستعاريّ للقصيدة ومطلعها. وليست الاستعارة في ما سنعرض مجازًا يقابل الحقيقة بل هي نفسها حقيقة تصوّريّة تحدّد فهمنا لتجاربنا وإدراكنا للعالم، وبها نعبّر عن أفكارنا. فإذا كانت الاستعارات في مطلع القصيدة محدودة في إيحاءاتها وكثافتها، بل تبدو أقرب إلى الاستعارات المتكلّسة، فإنّ النظر إليها ضمن النسيج الاستعاريّ الذي يُبَنْيِنُ القصيدة كلّها يمنحها أبعادًا أخرى لا تظهر للوهلة الأولى أو عند القراءة البيانيّة على ما سنبرز.1.1قراءة أولى في السطحلا يتميّز مطلع قصيدة ”إرادة الحياة،“ إذا نظرنا إليه بمفاهيم علم البيان، بأيّ كثافة استعاريّة، فأقصى ما يمكن الوصول إليه مجموعة من الترابطات الاستعاريّة الساذجة من قبيل اعتبار الليل استعارةً عن الاستعمار والقيد استعارةً عن الاستعباد، أمّا القدر فقد شُبّه بالإنسان وحُذف المشبّه به في ضرب من التشخيص. بيد أنّ هذه الاستعارات لا تقدّم دلالة مفيدة لإدراك أيّ كثافة شعريّة في البيتين بل تؤكّد ”الفقر المجازيّ،“ إن جاز التعبير، فيهما. لذلك لم يتبقّ إلّا التركيز على الطابع الحكميّ للصياغة عن طريق الشرط فيها.18 فمن البيّن أنّ دلالة ”إذا …“ على الاستقبال واختصاصها ”بوقوع حدث مقطوع به“19 جعل الافتراض الإمكانيّ (إرادة الشعب للحياة) في حكم الوجوب في اعتقاد المتكلّم. وهو وجوب مأتاه أمران: أمر بنيويّ مفاده أنّ المفترض ببنية (إذا …) ملزوم والجمل الثلاث الموالية لوازم له،20 فالقطع بالملزوم يقتضي القطع باللازم لأنّ معنى الافتراض عارض في (إذا …) إذ هو نحويًّا من اختصاص بنية (إنْ …) النحويّة؛ أمّا الأمر الثاني فدلاليّ يستمدّ من المعجم المستعمل إذ تمثّل ”استجابة القدر“ و”انجلاء الليل“ و”انكسار القيد“ لوازم من ”إرادة الشعب،“ وهو ما يدلّ عليه القطع في العبارة المتكرّرة ثلاث مرّات (لا بدّ …).لقد كانت الصيغة الحكميّة القائمة على الإمكان الوجوبيّ (إذا … فلا بدّ …) بمثابة التصريح بقاعدة علميّة (من صنف ”إذا غلى الماء إلى درجة كذا تبخّر“) وأضفى عليها طابعًا خطابيًّا إقناعيًّا قد لا يلائم الشعر كثيرًا ممّا يضعف، وهنا المفارقة، من البعد التخييليّ للبيتين.21 وإذا كان التركيب النحويّ الذي افتتح به الشابّي قصيدته على هذه الحال فإنّنا نجده مكرّرًا في آخر بيت منها بمعنًى مماثل له:وهو تكرار دالّ ولا ريب. فلئن كانت الإرادة تعني الاضطلاع بالمصير بكامل الوعي والحرّيّة فإنّ الطموح تطلُّعٌ وبحث عن تحقيق شيء يُخرج المرء من النقص إلى الكمال، ولكنّهما يلتقيان في طلب شيء والرغبة فيه ويرتبطان بالمستقبل. وفي مطلع القصيدة ونهايتها، علاوة على عنوانها، نجد هذه الإرادة وهذا الطموح موصولين بالحياة.ولعلّه من المفيد، ونحن نتبيّن المداخل إلى الكثافة الاستعاريّة في قصيدة ”إرادة الحياة،“ أن نشير إلى أنّ عبارتي الليل والقيد في المطلع الذي ندرسه قد وردتا على نحو آخر في قصائد أخرى للشابّي. ففي قصيدة تندرج ضمن القصائد التي تمثّل نظام اليأس في ديوان الشابّي، وهي ”الأشواق التائهة،“ نجده يقول مخاطبًا ”صميم الحياة“ (الإبراز بالخطّ الغليظ من عندنا): (الخفيف)وليس قصدنا من هذا الشاهد بيان التكرار بقدر ما هو التأكيد على وجود تعالقات استعاريّة بنى بها الشابّي عالمه في النظامين اللذين حدّدناهما (أي نظام الأمل ونظام اليأس). فالحياة هنا، ولها نظائر مثل الوجود، ترتبط في خيال الشابّي الشعريّ، على ما نجد في ”الأشواق التائهة،“ بالشروق والبروق والأغاني والنجوم والفجر والأحلام والورود والضياء وما إلى هذا وإن كان على سبيل الشوق. وهي عناصر نجدها كذلك في قصيدة ”إرادة الحياة،“ لكنّ الفارق بين القصيدتين أنّ الشاعر في ”إرادة الحياة“ اشتغل على بناء عالم الحبور والغبطة في حين اشتغل في ”الأشواق التائهة“ على الشقاء والأسى والغربة (نظام اليأس) المسيطر على حياة الشاعر حتّى جعلها مملّة مقابل الأغاني والأماني والأحلام والضياء والمسرّات (نظام الأمل).إنّ البيّن في مطلع القصيدة بناء مركّب تظافرت فيه عدّة عناصر لتوليد الوقع الحماسيّ القويّ في النفس. وهذه العناصر هي علاقة ”الإمكان الوجوبيّ“؛ وتكرار الجواب ثلاثًا؛ وإعلان حتميّة النصر على القوّة المتحكّمة في المصائر التي يقف المرء عاجزًا أمامها بحسب عالمِ اعتقادٍ جذورُه موغلةٌ في القدم وراسخة في النفوس. وإذا افترضنا أنّ المسألة تتجاوز البعد الحكميّ في المطلع واستعاراته ”البسيطة“ تأكّدت لدينا الحاجة إلى تنزيله في النسق الاستعاريّ العامّ للقصيدة في صلته بعوالم الشابّي الشعريّة.1.2الاستعارات الثلاثإنّ مجمل ما استخرجناه من تأمّل الأنساق الاستعاريّة المبنْينَة للقصيدة ثلاثة تصوّرات استعاريّة تغطّي الأنواع الثلاثة الأساسيّة التي تحدّث عنها لايكوف وجونسن: أوّلها استعارة بنيويّة صاغ بها الشابّي تصوُّره للحياة عن طريق تصوُّر المعركة فنشأت استعارة كبرى هي ”الحياة معركة“ تجسّم النسيج الاستعاريّ للقصيدة كلّها. وسنرى أنّها تقتضي خطاطة كاملة يستخدم منها بعض مكوّناتها لتحقيق غرضه؛ وثانيها استعارة اتّجاهيّة تنظّم جملةً من التصوّرات المترابطة انطلاقًا من الفضاء وإدراكنا له. ولنا أن نصوغ هذه الاستعارة بطرق مختلفة لكنّها تركّز أساسًا على مقولتي ”فوق“ مقابل ”تحت.“ فإذا أردنا أن نركّز على كلمة الحياة المنتصبة منذ العنوان لنا أن نقدّم صياغة من قبيل ”الحياة فوق“ وإذا أردنا أن نركّز على موضوع الأمل فإنّ الصياغة تصبح ”الأمل فوق.“ ولا تناقض بين الاختيارين بما أنّ سلسلةً من التعالقات تقوم بين الأمل والحياة المنتظرة. فمعركة الحياة تقوم على حركة فضائيّة أخرى كما يبرز في القصيدة نحو الاستعلاء المطلوب (مقابل الاستفال المنطلق منه) ومن الهامش القائم إلى المركز المنشود. وهذه جميعًا (فوق/تحت واستعلاء/استفال ومركز/هامش) مفاهيم فضائيّة مترابطة؛22 وثالثها استعارة أنطولوجيّة تُصاغ عن طريقها بعض الأفكار والأحاسيس والحالات، وهي هنا أساسًا مفهوما الإرادة والطموح المؤطِّرينِ للقصيدة من العنوان والبيت الأوّل إلى البيت الأخير، على اعتبارها موادّ وكيانات. فتكون الإرادة هنا، ولنعدَّ الطموح تنويعًا على الإرادة بحكم اشتراكهما في الطلب والرغبة، أداةً أو سلاحًا في معركة الحياة. فتكون لنا، إذا صحّ زعمنا، الاستعارة الأنطولوجيّة التالية: ”الإرادة سلاح.“1.2.1الحياة معركةإذا أعدنا قراءة مطلع القصيدة بواسطة هذه الاستعارات أمكننا أن نرى في بناء المعنى فيها نسيجًا تتداخل فيه تصوّرات المعركة والسلاح والاتّجاه. فالأطراف التي تقتضيها خطاطة المعركة تبرز في التقابل بين ”إرادة الشعب“ و”القدر،“ فهما طرفان متقابلان تعلن القصيدة منذ البداية انتصار الطرف الأوّل منهما على الثاني سواءٌ عن طريق الفعل ”استجاب“ أم عن طريق الشرط مقطوع الوقوع. فالاستجابة قبولٌ بالطلب المتضمّن في الإرادة وتحقيقٌ للرغبة، وفي كليهما معنى الانصياع والإذعان والامتثال.وفي هذا التقابل من الناحية الثقافيّة والاعتقاديّة ما يلفت الانتباه، فالدلالة العامّة للقدر كما ترسّخت في التمثّلات العامّة للبشريّة، ومنها التمثّل الإسلاميّ، أنّه نتاج قوّة خارجة عن إرادة البشر تحكم الكون وتقرّر المصائر الفرديّة والجماعيّة فتثبّت مجرى الأحداث التي يعيشونها ولا رادّ لهذه القوّة.23 بيد أنّ القصيدة تبني انطلاقًا من هذا المعنى العامّ معنًى شعريًّا خاصًّا بها يخفّف من الوجه الاعتقاديّ الثقافيّ ويؤكّد بَنْيَنة الحياة على أنّها معركة وصراع بين قوّتين. فمقابل قوّة إرادة الحياة ومرادفاتها في النصّ كـ”شوق الحياة“ والطموح وأهله نجد ”صفعة العدم المنتصر“ و”لعنته.“ ولئن بدا من العسير، لأوّل وهلة، أن نحمل هذا الطرف الثاني على معنى القدر فإنّ في دلالة كلمة ”قدر“ باستعمالاتها في الشعر العربيّ القديم قبل الإسلام، والشابّي من الملمّين بهذا الشعر إلمامًا طيّبًا يبرز في كتابه الخيال الشعريّ عند العرب، ما يسمح بمثل هذا الفهم الذي يربط القدر بالموت. فالعلاقة الدلاليّة بين القدر والحتم والحمام والقضاء كما في ”قضى نحبه“ قائمة بأدلّة كثيرة.24فأساس المعركة كما صوّرها الشابّي هو التعارض بين فعل الإفناء الذي يسنده إلى الشتاء:وفعل الإحياء الذي يسنده الشابّي إلى الربيع:إنّ هذه الحركة الكونيّة القائمة على دورة حتميّة طبيعيّة بين الشتاء (الموت والإفناء والهلاك) والربيع (الحياة والانبعاث والإحياء) تمثّل عند الشاعر، في آنٍ واحد، صورةً من حركة الزمان من ناحية، ومغزى المعركة في مطلع القصيدة بين الحياة وصورها المعبّرة عنها (النهار والحرّيّة) والموت وصوره (الليل والقيد) من ناحية أخرى. فالقاعدة المؤسِّسة للحتميّة المتكرّرة في القصيدة ابتداءً وانتهاءً (أي ”لا بدّ أن …“) مأتاها هذه الحركة الكونيّة الطبيعيّة العميقة في معركة الحياة والموت:لذلك كان الانتقال من الشتاء (نظام اليأس) إلى الربيع (نظام الأمل) واقعًا في عمق الموت مترسِّخًا في البذور المطمورة تحت ”الضباب والثلوج والمَدَر.“25 وهي بذور تختزن، رغم الشتاء وفعله المهلك، ”طيفَ الحياة“ و”قلبَ الربيع“ لتعلن:إنّ مطلع القصيدة على بساطته الاستعاريّة الظاهرة يختزن على وجه الإجمال ما أبرزته القصيدة مفصَّلًا في صور عديدة وفي حركة كونيّة. فما الإرادة إلّا شوق البذور إلى أن تنبثق من ”تحت الضباب والثلوج والمَدَر“ وتظهر بفعل قويّ يفيد الشقّ والكسر والقطع، وهو ما يكشف عنه الفعل المسند إلى البذور أو إلى الأرض26 سواء:فما نجده في مآل المعركة هنا من انتقالٍ من الشتاء ورموز الفناء فيه إلى الربيع ورموز الانبعاث والإحياء التي ترتبط به، ينعكس في المطلع مع صورتَي ”انجلاء الليل“ و”انكسار القيد.“ وكلا الفعلين ”انجلى“ و”انكسر“ قائم على معنى المطاوعة المستقرّة دلالته في الصيغة الصرفيّة ”انفعل.“ وهو معنى لافت لأنّه يجعل زوال الليل وذهابه، من ناحية، وقطع القيد وفصمه، من ناحية أخرى، عملين طبيعيّين حتميّين على نحو يؤكّد الوجوب في ”لا بدّ …“ ويبرز حركة انتقال من الليل إلى الصباح ومن القيد إلى الحرّيّة مناظرةً لحركة تعاقب الشتاء والربيع.وعلى هذا النحو بَنْيَنَت الاستعارة البنيويّة ”الحياة معركة“ القصيدةَ كلّها، وانبنى عليها مطلع القصيدة نفسه بما جعله يقدّم التصوّر الأساسيّ لبناء المعنى وخطاطته العامّة، وجعل القصيدة كلّها استدلالًا على هذا التصوّر منتزعًا من المطلع بتصريف الاستعارة وجوهًا من التصريف في القصيدة كلّها.1.2.2الإرادة سلاحونحتاج هنا إلى تحليل الاستعارة الأنطولوجيّة ”الإرادة سلاح“ لنعمّق بعض الجوانب من الاستعارة الأساسيّة البنيويّة،27 فالاستعارة البنيويّة أصلٌ تُبنى به التصوّرات فتكون الاستعارات الأنطولوجيّة فروعًا منها. لذلك فإنّ فهم الاستعارة الأنطولوجيّة التي استخرجناها ”الإرادة سلاح،“ وإن أوجد بنية كيان (هو السلاح ونوعه ومداه واستعماله … إلخ)، لا يُدرَك إلّا بمقتضى وضع المعركة. ومن الواضح أنّ استعارتنا الأنطولوجيّة لا تثير إشكالًا بالنسبة إلى وضعيّة المعركة في استعارة ”الحياة معركة“ فهي أقرب إلى التفريع واستكمال خطاطة المعركة منها إلى فرض بنية كيانٍ جديدٍ تمامًا. بيد أنّ قيمة هذه الاستعارة الأنطولوجيّة تكمن في تيسير فهم المعنى المجرّد في عبارة ”إرادة“ ضمن الاستعارة التصوّريّة البنيويّة نفسها.فالمعنى العامّ الذي تدلّ عليه الوحدة المعجميّة ”إرادة“ معنًى نفسيّ قريب من المشيئة والتمنّي والرجاء والتَّوْق والشوق والأمل والحبّ والرغبة وما إلى هذا، وإن كان فيه معنيا الإيمان بالفعل والقدرة عليه. والأهمّ من ذلك شبكة العلاقات الدلاليّة التي ابتناها الشابّي في هذه القصيدة بين الإرادة ووحدات معجميّة أخرى تؤدّي ضمن الاستعارة التصوّريّة الأساسيّة ”الحياة معركة“ الوظيفة نفسها. فـ”إرادة الحياة“ التي تبرز في العنوان والبيت الأوّل تصبح في البيت الثالث ”شوق الحياة“ (وتُصرَّف في صيغة فعليّة في البيت الرابع والبيت الثامن عشر). ويظهر الطموح منذ البيت السابع في صيغة فعليّة ليتكرّر في البيت الثالث عشر ثمّ في البيت الثاني والستّين في صيغة اسميّة لتنغلق القصيدة على الطموح مصرّفًا في صيغة فعليّة.إنّنا أمام جذور ثلاثة ترتبط بالحياة هي الإرادة والشوق والطموح. وتجمع بينها معجميًّا معاني الرغبة والمحبّة مجسّدتين في نزوع النفس إلى شيء وتعلّقها به. ولئن كانت الإرادة معنًى عامًّا يقوم على العزم والطواعية والاختيار فإنّ الشوق إرادة تجمع إلى الطواعية الشدّةَ والرغبة الجامحة. أمّا الطموح، بما هو تطلّعٌ إلى هدف، فيضيف إلى سمة الشدّة سمة علوّ المطلوب وارتفاعه وهي سمة مهمّة في بناء الاستعارة الاتّجاهيّة التي سنحلّلها.وقد تبدو دلالة الإضافة إلى الحياة في ”طمح/طموح“ و”شوق الحياة“ قائمة على معنى الاتّجاه في دلالة حرف الجرّ ”إلى“28 باعتبار أنّ الأولى تعني ”طموح (إلى) الحياة“ والثانية ”شوق (إلى) الحياة.“ وفي هذا الفهم نرى حركةً مبتدؤها الذات، ذات الفرد أو المجموعة (الشعب)، ومنتهى غايةِ عملِها هو الحياة إذا سلّمنا بأنّ دلالة ”إلى“ هي ”انتهاء غاية العمل.“29 ولئن كانت دلالة الاختصاص عامّةً في معنى حرف الجرّ اللام وتكون بالملكيّة وبغيرها فإنّ البنية الدلاليّة للإضافة في ”إرادة الحياة،“ وتأويلها على مقتضى حرف الجرّ المقدَّر في بنية الإضافة هو ”إرادة (لـ) الحياة،“ يتّجه بنا إلى معنى الاستحقاق لا الملك لأنّ الحياة ليست ممّا يُملك. فالاستحقاق أعلق بمعنى الرغبة والنزوع النفسيّ إلى الشيء. وسواء كانت الحياة التي يتحدّث عنها الشابّي على سبيل الطموح والشوق والإرادة منتهى غاية العمل أم استحقاقًا بمعنى طلب الحقّ، وفي الحالتين هي هدف، فإنّ إدراكها لا يكون إلّا بوسيلةٍ (أداة) واحدة هي النزوع النفسيّ إليها وطلبها.وهنا تحديدًا تلتقي الاستعارة البنيويّة الثريّة ”الحياة معركة“ مع الاستعارة الأنطولوجيّة المبنيّة على مقولة الوسيلة ”الإرادة سلاح.“ فالإرادة ومرادفاها النصّيّان، الشوق والطموح، هي السلاح الذي يخوض به الشعب معركته فيجبر القدر على الانصياع له ويدفع الليل إلى الانجلاء طوعيًّا والقيد إلى الانكسار تلقائيًّا. ورغم ما يستلزمه تصوُّر المعركة من جمهرةٍ من المكوّنات (تحديد المشاركين والحلفاء والأعداء وبداية المعركة وتحوّلاتها ومآلها والأسلحة المستخدمة والخطط الهجوميّة أو الدفاعيّة والأهداف والغزو أو التراجع أو الانسحاب والضحايا … إلخ)30 فإنّنا لا نجد في استعارة ”الحياة معركة“ إلّا القليل من هذا. وهو أمر طبيعيّ لأنّ الاستعارة لا تشمل جميع المكوّنات المطلوبة في سيناريو مكتمل بقدر ما تركّز على العناصر البارزة. والبارز في قصيدة ”إرادة الحياة“ هو الفاعل الأساسيّ أي الشعب (وحليفه الربيع في نظام الكون القائم على الانبعاث والإحياء) وخصمه القدر (وحليفه الشتاء) وهدفه الحياة. أمّا الإرادة فقد بدت سلاحًا في هذه المعركة قادرًا على الحسم، فإذا وظّفه الشعب انتصر حتمًا (حقّق هدفه من المعركة)، وإذا لم يوظّفه انتصر عليه العدم والموت. وهذا وجه التقابل بين البيت الأوّل من القصيدة والبيتين الثالث والرابع منها:31وإذا سلّمنا بهذا التعالق بين استعارة ”الحياة معركة“ واستعارة ”الإرادة سلاح“ بدا الأمر قائمًا على ضربٍ من السببيّة يحتاج إلى إشارة ولو موجزة.32 فنحن أمام حالة نفسيّة هي الإرادة (والطموح والشوق) تُولِّد، بعد أن أصبحت في المستوى التصوّريّ كيانًا هو السلاح، ولو على سبيل الإمكان والاحتمال، أحداثًا، تتّصل بمجريات المعركة ومآلاتها، هي استجابة القدر وانجلاء الليل وانكسار القيد. وبانتفاء هذه الحالة النفسيّة (”من لم تَشُقْهُ الحياة“) يكون حدثا ”الاندثار“ و”العدم“ ولو على وجه الاحتمال والإمكان كذلك.وهذه الدلالة السببيّة قويّةٌ في مطلع القصيدة لم يزدها التركيب المبنيّ على (إذا …)، بما فيه من تلازم بين الملزوم واللازم من ناحية، ومن دلالة الإمكان الوجوبيّ من ناحية أخرى، إلّا قوّةً وتمكُّنًا. ولم يخرج الاستدلال على هذا الإمكان في كامل القصيدة عن هذه السببيّة التي نعدّها استعاريّة بما في ذلك تأكيد حتميّة الانتقال من الملزوم إلى اللازم والحركة الكونيّة الطبيعيّة وتعاقُب الشتاء والربيع وغير ذلك ممّا نجده في القصيدة.ومفاد ملاحظتنا هذه أنّ القصيدة تبني سببيّةً استعاريّةً أساسًا تتضمّن بعض قوّتها التخييليّة المؤثّرة في النفوس، ولكنّها، مع طابعها التخييليّ الاستعاريّ، لا تخلو من قوّة إقناعيّة مأتاها تحديدًا إضعاف معنى الإمكان في بنية (إذا …) بمعنى الوجوب في العبارة التي تكرّرت ثلاث مرّات في المطلع (فلا بدّ أن …).1.2.3الأمل فوقتشتغل في قصيدة ”إرادة الحياة“ استعارة ثالثة اتّجاهيّة لا تظهر بوضوح في مطلعها ولكنّها تنظّم نسق التصوّرات المتولّدة عن الاستعارة البنيويّة ”الحياة معركة“ خصوصًا ما تفرّع من مقولة المعركة فضائيًّا من بنية تتعلّق بالاتّجاه سواء في مسار المعركة أم غايتها. وصورة هذه الاستعارة هي: ”الأمل فوق،“ ويمكن صياغتها على أنحاء أخرى تعبّر عن الدلالات الأساسيّة في الاستعارتين الأخريين من قبيل ”الطموح فوق“ و”الإرادة فوق“ و”الشوق فوق“ وحتّى ”الحياة فوق.“ وليس في هذا أيّ تناقض بين الاستعارات أو استبدال استعارة بأخرى لأن حقيقة هذه الاستعارات الثلاث قائمة على التداخل في التصوّر تداخلًا يعبّر عن انسجامها التصوّري أكثر ممّا يعبّر عمّا قد يبدو من باب الفوضى الدلاليّة. فأن يكون المكوّن ”إرادة-شوق-طموح“ سلاحًا في معركة الحياة لا ينفي أنّه يعبّر فضائيًّا-اتّجاهيًّا عن معانٍ كنّا قد حلّلناها أعلاه فتوصّلنا إلى:أ. الرغبة ونزوع النفس إلى الشيء،ب. التطلّع إلى هدف (في الطموح خاصّة) والتقاء دلالتَي الاستحقاق وانتهاء غاية العمل في معنى الهدف،ج. علوّ المطلوب وارتفاعه،د. دلالة الاتّجاه في حرف الجرّ المقدّر في ”شوق إلى الحياة“ و”طموح إلى الحياة“ وما يفيده من معنى ”انتهاء غاية العمل“ بعبارة ابن يعيش (ت 643/1245).فمن البيّن هنا أنّ مأتى هذا العلوّ هو أنّ ”الهدف فوق“ (وهو في تعبير الشابّي ”الحياة المنتظرة“ في البيت 43) و”الواقع تحت“ (وهو بعبارة الشاعر ”العدم المنتصر“ المذكور في البيتين 4 و18). وهو ما نجد تسويغه في عبارات نستعملها على نحو عاديّ من قبيل ”الأهداف السامية“ و”الهمّة العالية“ و”بُعد الهمّة“ و”ارتفاع القدر“ و”صاحب الرفعة“ وغيرها.ولا يختلف فهمنا لاستعارة ”الحياة معركة“ فهمًا اتّجاهيًّا لتصبح ”الحياة فوق“ عمّا ذكرناه استنادًا إلى البنْيَنة الاستعاريّة في النصّ. فمن ناحية أولى، نجد معنى العلوّ قد تسرّب إلى الحياة، في المركّب الإضافيّ ”إرادة الحياة،“ من دلالة ”الإرادة فوق.“ ومن ناحية ثانية، تبدو الحياة مطمحًا وغاية تسعى إليها الكائنات والريح والأرض والغاب والبذور في القصيدة كما يسعى إليها الشعب في مطلع القصيدة. لذلك تتجاوز الحياة معنى التقابل مع الموت، على أهمّيّته، ومعنى البقاء والاستمرار والنموّ لتتّصل بما عبّر عنه الشاعر في آخر القصيدة بالخصوص باستعارات أخرى هي: ”نشيد الحياة المقدّس“ (البيت 61) و”لهيب الحياة“ و”روح الظفر“ (البيت 62). وهي استعارات ثلاث لم تأت منفصلةً عن معنى الإرادة والطموح، وعرض الشابّي دلالتها على نحو نظّمت فيه الاستعارة الاتّجاهيّة ”الأمل فوق“ جملة من التصوّرات المتعالقة.لبيان ذلك نشير إلى انبناء القصيدة على خمسة مقاطع نقل فيها الشاعر حديث الكائنات (من البيت الأوّل إلى البيت الخامس) فحديث الريح (من البيت 6 إلى البيت 11) فحديث الأرض (من البيت 12 إلى البيت 18) فحديث الدُّجى أو بالأحرى صمته (من البيت 19 إلى البيت 22) فحديث الغاب الذي امتدّ من البيت 23 إلى آخر القصيدة (البيت 63). ولعلّ صمت الدُّجى في المقطع الرابع دالٌّ ونحن نحلّل الاستعارة الاتّجاهيّة ”الأمل فوق.“ فلا نجد في هذا المقطع أيّ تعبير اتّجاهيّ يفيد دلالة ”فوق،“ وهو أمر متوقّع بما أنّ المقطع كلّه قام على ما أسميناه بنظام اليأس. فالزمن ليل ودجى وظلام وخريف والجوّ، على ما وصف الشاعر، جوّ أسى وضجر وحزن وذبول وغياب الترنّم. فليس في نظام اليأس هذا ما يقدّم إجابة عن سؤال الشاعر وهو يحاور الدُّجى:33 ”هل تعيدُ الحياةُ لما أذبلَتْه ربيعَ العمر؟“ وبالمقابل تبرز في المقاطع الأربعة الأخرى بنية ”الأمل فوق.“ ففي المقطع الثاني المخصّص لحديث الريح نجد التقابل واضحًا بين ”الجبال“ و”الحُفَر“ مع اعتبار ”صعود الجبال“ معبّرًا عن الطموح ومن ثمّة عن الحياة المنشودة، والحُفَر معبّرةً عن الموت وانتصار العدم. ويتواصل البناء على معنى الفوقيّة في ما أثّر به كلام الريح في نفس الشاعر فجعله يصغي إلى ”قصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر“ وجميعها تكون ”فوق“ لأنّ حركتها من أعلى إلى أسفل. لكنّ المقطع الخامس، وهو أطول المقاطع بأبياته الأربعين، يقدّم التقابل (تحت/فوق) على نحو أوضح وأوسع مدى. أمّا وجه التقابل فيبرز في فعل الإفناء الذي يأتيه الشتاء مقابل فعل الإحياء (أو البعث) الذي يأتيه الربيع. وحديث الغاب استئناف للسؤال الذي لم يجب عنه الدُّجى في المقطع الرابع.وتكشف صور ”فوق/تحت“ على نحو تخييليّ أعمق عن هذا التقابل المتولّد اتّجاهيًّا عن استعارة ”الحياة معركة“ أو لنقل إنّ البعد الاتّجاهيّ ينسّق التصوّرات المتضادّة بين فعلي الإفناء والإحياء والشتاء والربيع والموت والحياة داخل استعارة ”الحياة معركة.“ ونكتفي، استنادًا إلى غرضنا من بيان استعارة ”الأمل فوق“ بقسم من هذا البناء الاتّجاهيّ يبيّن التناسق داخل تصوّر ”ربيع الحياة“ وحتميّة انتصارها. وتقوم حركة هذا المقطع على مراحل هي:أ. يزيل الشتاء كلّ مظاهر العلوّ (من البيت 24 إلى البيت 29)،ب. تبقى البذور المطمورة تحلم بكلّ مظاهر العلوّ السابقة (من البيت 30 إلى البيت 43)،ج. تحقّق البذور حلمها ويبدأ فعل الإحياء وتعود مظاهر العلوّ (من البيت 44 إلى البيت الأخير).فلننظر على سبيل التمثيل في المرحلة الثانية التي تحلم فيها البذور و”طيف الحياة“ باستعادة ”فصول الحياة السابقة“ رغم أنّها مدفونة ”تحت الضباب والثلوج والمدر.“ فهي أقرب إلى الشعب الذي عليه أن يختار بين ”العدم المنتصر“ (انتصار الشتاء) و”العالم المنتظر“ (انتظار البذور للربيع).يقول الشاعر متحدّثًا عن رغبة البذور وشوقها وطموحها (أي إرادتها التي تشبه إرادة الشعب):نشير في هذه الأبيات السبعة إلى الكائنات الحيوانيّة التي خرجت من الحلم إلى اليقظة وهي الفراشات والنحل والطيور. ونحن حين نتصوّر حركتها نجدها حركة تقع ”فوق“ وحتّى إن نزلت إلى ”تحت“ فإنّ وجودها دومًا في الأعلى.أمّا العناصر الأخرى التي ترغب فيها البذور فهي ترتبط بالضياء: الضوء (”ضوء القمر“) والنور وأشعّة الشمس، وبالأصوات العذبة: الغناء والنغمات والهمس واللحن. وحين نفكّر في تصوّراتنا لها نجدها تقوم على حركة من الأعلى إلى الأسفل أيضًا ولا نتصوّرها إلّا ”فوق.“ وحتّى العنصر الليليّ الوحيد الذي يُرجعنا إلى مطلع القصيدة (”لا بدّ لِلَّيْل أن ينجلي“) وهو القمر لم ينتقِ منه الشاعر إلّا ما يناسب الضياء ”ضوء القمر“ في تناسق مع استعارة ”الأمل فوق.“ ولهذا الترابط بين النور والأصوات العذبة، من ناحية، والعلوّ، من ناحية ثانية، صور أخرى في كامل القصيدة يلخّصها البيتان 61 و62 حيث نجد الضوء والرنين النشيد ونجد فعل الرفرفة علاوة على الأجنحة التي ترتبط تصوّريًّا بالطيور التي تكون في الأعلى:2نظام التخييل النهاريّلقد أقمنا تحليلنا لبلاغة الأمل في قصيدة ”إرادة الحياة“ من جهة النسيج الاستعاريّ التصوّريّ الذي يحتضنها على مفهومٍ صنعناه للغرض أسميناه ”نظام الأمل.“ وقوامه مفاهيم ثلاثة عبّرت عنها الاستعارات الثلاث التي استخرجناها وهي مفاهيم: الصراع والسلاح والفوقيّة (أو العلوّ). غير أنّ لهذه المفاهيم أسسًا رمزيّة في نظام الخيال، كما حلّله جلبار دوران ترتبط بمسار أنتروبولوجيّ يسمّيه خطاطة العموديّة المصّاعدة.34 وقد أوصلنا تحليل الاستعارة الاتّجاهيّة إلى بيان ما تقوم عليه التفضية في القصيدة من تصوُّر للاستعلاء. وعلينا في هذا القسم الثاني أن نبرز علاقة تلك الاستعارة الاتّجاهيّة بخطاطة الصعود العموديّ الكلّيّة لأنّنا نفترض أنّها تمثّل منابتها الخياليّة وتقوم على صور أصليّة (الأنماط العليا) تتجسّم في رموز عديدة تتّصل بها.وتجتمع الاستعارتان الأخريان ”الحياة معركة“ و”الإرادة سلاح“ في مسألة ثانية على صلة بخطاطة الصعود، وهي مسألة بناء عالم قائم على المقابلة يجسّد ما يقع وراء تصوُّر الزمان وحركته المهلكة من صراع. وهو صراع يقوم على أنماط عُليا تولّد رموزًا أبرزها الليل والظلمة. إنّ هذه الخطاطة وما تقتضيه من أنماط عُليا تقتضي بدورها جمهرة من الرموز المحدّدة، توافق ما يسمّيه جلبار دوران ”النظام النهاريّ للصورة“ مقابل ”النظام الليليّ.“352.1خطاطة الصعودتتميّز البنية الفضائيّة التي تشفّ عنها قصيدة ”إرادة الحياة“ بمظهرين أساسيّين: أوّلهما تصوّر الحركة في الفضاء على أنّها حركة صعود في اتّجاه عموديّ وخروج من غياهب ”التحت“ إلى رحابة ”الفوق“؛ وثانيهما تصوّر الفضاء نفسه على أنّه رمز القمّة (مقابل الهاوية). وإذا كانت حركة الصعود معبّرة عن رغبة الإنسان في الترقّي إلى ”العالم المنتظر“ (الميلاد) وتجاوز وضعيّة ”العدم المنتصر“ (الموت) وما يصحب ذلك من نزعة العظمة والقوّة (إرادة الحياة) عنده، فإنّ في حالة الكمون التي شهدتها البذور الحاملة لحتميّة الانبعاث من الموت نجد الذاكرة العامرة بالتخيّلات وعالم الأحلام والمنى للتعبير عن هذه الرغبة الجامحة في الصعود. فالبذور التي دُفنت ”تحت الضباب والثلوج والمَدَر“ تعيش تخيّلات ماضيها ”الجميل“ الذي ”غبر“ في صِيَغ ”الذكرى“ و”الرؤيا“ و”الأشباح“ المتلاشية و”الأطياف“ كما في الأبيات الواقعة بين البيتين 31 و33. وهي تظلّ ”حالمة“ إلى أن تصبح أحلامها ”يقظة“ كما في البيتين 34 و36. وهذه كلّها رموز ليليّة تقابل النظام النهاريّ الأساسيّ الذي تقوم عليه القصيدة في ضرب من التقابل.وفي هذا الانتقال من الحلم إلى اليقظة قوّة محرِّكة لفعل الصعود تنبني على الإرادة والرغبة. فالبذور تتساءل عن تلك الذكريات المطمورة (أين ضباب الصباح وسحر المساء وضوء القمر وأسراب الفراش والنحل والغيم والأشعّة والكائنات والحياة؟ كما في الأبيات من 37 إلى 39). ثمّ تنتقل من التساؤل إلى الرغبة في النور والظلّ والنبع ونغمات الطيور وهمس النسيم ولحن المطر والكون والوجود والعالم المنتظر كما في الأبيات من 40 إلى 43. ومن هذه الرغبة نفسها (”الشوق“ في البيت 45) يبرز فعل الصعود والانبثاق من الغياهب إلى الأعلى. وقد عبّر عنهما (أي الصعود والانبثاق) الشاعر بصورة فضائيّة مهمّة هي ”كخَفْقِ الجناح.“ ففي الجناح معنى وثيق الصلة بالطيران الذي هو حركة صعود،36 وهذه الحركة تأتي في القصيدة معاكسةً للحركة المتولّدة من الشتاء وما يحمله من تهاوي الغصون وأوراقها فتعبث بها الريح في الأودية ويدفنها السيل (البيتان 27 و28).ولا تكتمل خطاطة الصعود إلّا بتصوّرات فضائيّة أخرى تشكّل معنى الاستعلاء؛ إذ يعاضد حركة الصعود تصوّر للفضاء عموديّ قوامه التقابل بين القمّة والحفر. وأبرز بيت يكشف هذا الرمز هو البيت التاسع:وإذا تثبّتنا من المعجم الذي وظّفه الشابّي في القصيدة أمكننا أن نستخرج ثلاثة حقول دلاليّة تبيِّن تقابلًا بين رمزين (الجبل/الحُفَر) يتّصلان بالتقابل بين خطاطتين (الصعود/السقوط). فعكس الصعود في القصيدة هو ”التبخّر“ و”الاندثار“ و”الفناء“ و”الهُوِيّ“ (مصدر هوى يهوي) و”الدفن“ و”التلاشي.“ أمّا مرادفات الحُفَر نصّيًّا فهي ”العدم“ و”الفِجاج“ و”الشعاب“ و”الحجر“ و”الوادي“ و”السيل“ في حين أنّ ما يناسب دلالة الجبل هو ”الرياح“ و”الرعود“ و”الأفق“ و”الفضاء.“ويحمل رمز الجبل دلالة القمّة بقدر ما يحمل دلالة الخطر، فالطموح إلى القمّة (”إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ …“ في البيت السابع) يستدعي التخلّي عن الحذر ويستوجب الركوب (”ركبتُ المنى …“ في البيت السابع نفسه وفي البيت 13 حيث تبارك الأرض ”من يستلذُّ ركوبَ الخطر“)، ومن معاني الركوب المعجميّة الاستعلاء والمخاطرة والمغامرة والمشقّة. بيد أنّ صورة الجبل تحمل معها علاوة على النزعة العموديّة إرادة الفعل المغيِّر الذي يترجم المعنويّ المجرّد في خطاطة الصعود إلى مادّيّ مجسّد في قمّة الجبل. وفي هذا معنى الاكتساح والامتلاك (البيتان 52 و53 مثلًا):وينتج عن ذلك الظفر بالحياة المنشودة الذي يُعبَّر عنه في استعمالاتنا اليوميّة المتكلّسة بالوصول إلى القمّة. وهو معنى يجسّد الإرادة (الطموح) التي يراها الشاعر منذ صدر البيت الأوّل في القصيدة محرّكَ الحياة، ويستعيد هذا في البيت قبل الأخير منها:ولئن كان الجبل والقمّة أبرز رموز الصعود العموديّ فإنّنا نجد في أعطاف القصيدة انسجامًا بين هذا البعد العموديّ وحركة النبات، ففي حركة النبات معنى الاستعلاء والبروز والتطلّع إلى فوق. ورغم ضعف حضور المكوّن النباتيّ في هذه القصيدة فإنّ التحوّل الأساسيّ في حركة الانبعاث ارتبط بالبذور (في البيتين 30 و56). وما كنّا لنهتمّ بها لولا انتصار شوق البذور إلى الحياة وما تولّد عنه من ”تصدُّع الأرض“ على نحوٍ يبرز صورة الاختراق والانبثاق تنويعًا على خطاطة الصعود. إنّ في حركة البذور اجتماعًا لفضاءينِ هما الأرض والسماء. فالشابّي يعيد صياغة التقابل بينهما على نحوٍ يوافق إعادة صياغته للعلاقة بين الموت والانبعاث والسبات واليقظة والجمود والحركة وعن طريقها ما يكون بين الليل والنهار والقيد والحرّيّة من علاقات برزت في مطلع القصيدة. فالجوهريّ في هذه الرؤية الشعريّة الخياليّة هو معنى التجدّد والانبعاث ضمن خطاطة الصعود.وتتأكّد هذه الخطاطة برموز أخرى عبّر عنها بـ ”خَفْق الجناح“ (البيت 45) والرفرفة (البيت 60)؛ إذ تندرج حركة الطيران هذه، سواء كانت من الطيور أم من الحشرات (النحل أو الفراشات)، ضمن النظام النهاريّ. فيكون الحلم بالطيور والنحل وغنائهما، والحلم بحركة الفراشات الأنيقة ممّا يجسّد حلم البذور بالانبثاق والولادة والصعود من وضع الدفين إلى وضع الحيّ الذي يتعلّق بالأعالي. ولا نظنّ أنّ هذه الحركة المادّيّة للطيران إلّا تعبير رمزيّ عن الإرادة في صدر القصيدة وعنوانها.2.2بناء التضادّ وعالم البطولةتنتظم القصيدة منذ مطلعها على التقابل. فعلاوة على ما يوحي به الفعل ”استجاب“ من تقابلٍ بين الرغبة والانصياع وما يتضمّنه من تضادّ بين الشعب/البطل المريد والقدر/العدوّ في البيت الأوّل، نجد في البيت الثاني علاقتَيْ تضادٍّ بين الليل والنهار والقيد والحرّيّة. ولا يخلو المطلع كذلك من علاقة تضادّ رابعة بين السلاح الذي يستعمله البطل والوثاق الذي يقيّده به القدر.37وقد فصّل عبد الله صولة، بعض التفصيل، المستويات التركيبيّة والدلاليّة التي تظهر فيها المقابلات في ديوان أغاني الحياة وأنواعها فاستنتج عن حقّ ”أنّ معظم قصائد ديوان الشابّي تتراوح بين هاتين الحركتين: حركة السقوط والإحباط من ناحية وحركة الصعود والانعتاق من ناحية أخرى فتكون ذات الشابّي في خضمّ هذا التقابل.“38 وقد أرجع دوران التقابل عامّة، ومنه التقابل الذي حلّله صولة، إلى أسس خياليّة عامّة على اعتبار أنّ ”النظام النهاريّ في جوهره جداليّ والصورة التي تعبّر عنه هي التضادّ (Antithèse).“39 وهذا كلّه مرتبط بتمثّلات متخيّلة وتوافقات بين خطاطات ورموز وأنماط عُليا تتّصل بالنظام النهاريّ في تقابله مع النظام الليليّ.وتؤكّد بنية التقابل ما ذهبنا إليه في تحليل التصوّرات البانية للقصيدة من قيامها على استعارة ”الحياة معركة.“ لكنّنا نهتمّ هنا بجانب آخر منها يتّصل بالأنماط العليا المولّدة لرموز هذه المعركة وأساسًا التقابل بين الليل والنهار. فأهمّ تضادٍّ يكشف جانب الصراع وأسسه الخياليّة هو التضادّ بين النور والظلمة.40 ولمّا أكّدنا، منذ البدء، أنّ بلاغة الأمل في القصيدة ترتبط بالنظام النهاريّ فإنّ إيلاء صور النور ورمزيّته العناية اللازمة لَمِن لوازم ذلك التأكيد.يبرز صراع النور والظلمة جليًّا كما أشرنا إليه وكما هو بَيِّنٌ منذ البيت الثاني من القصيدة في عبارة ”لا بدّ لِلَّيْل أن ينجلي.“ ولضديد الليل الذي تبشّر به القصيدة صور عديدة يتشكّل فيها، ورموز تعبّر عنه من أبرزها ”اللهب“ (البيتان 8 و62) والضياء (الأبيات 20 و52 و59 و60) والضوء (البيت 37) والأشعّة (البيت 39) والنور (الأبيات 40 و50 و51 مرّتين). هذا علاوة على ما يتعلّق بالنجوم (البيتان 55 و59) والقمر (الأبيات 37 و55 و60) والشموع (البيت 59) من أنوارٍ تكتسح الظلام. وليست هذه العلاقة بين النهار والليل والنور والظلمة إلّا علاقة بين صور متعلّقة بالزمن.41 فالوعي بالزمن وصروفه (البيت 35):يولّد تخوُّفًا من تبعات فعل الزمان وتغيّراته وهلعًا من الموت باعتباره من آثار حركة الزمن. وفي هذا المستوى يبرز صراع الإنسان ضدّ ”القدر“ في رأس القصيدة؛ إذ الخوف والهلع من حركة الزمان يمثّلان حسب جلبار دوران المحرّك الرئيسيّ للخيال وتُسنَد إليه وظيفة أساسيّة هي الصراع ضدّ المصير الإنسانيّ السائر حتمًا نحو الموت أي القدر الذي يجمع في معناه دلالتَي الزمن والفناء.ومن صور السلوك الإنسانيّ لمواجهة الزمان نجد البنية42 التي يصفها دوران بالبطوليّة وقوامها الصراع ضدّ الزمن المهلك للإنسان. فلئن كان الصعود ضديدًا للسقوط، وكان النور ضديدًا للظلمة فإنّ خطاطتيهما وأنماطهما العليا مرتبطة جميعًا بصراع المتناقضات. فالنور، في خضمّ هذا الصراع، ينزع إلى أن يكون صاعقة شبيهة بالسيف بقدر ما ينزع الصعود إلى أن يدوس الخصم المهزوم فتنشأ منهما صورة المصارع البطل ضدّ الغياهب والحفر.43 وهو ما يقتضي أن يكون فعل الصعود وطلب العلا فعلًا مسلّحًا.44وهنا يبرز، من جهة الخيال، تعالقٌ عميق بين هذا المظهر الزمانيّ القائم على طرق مواجهة الخوف من الصروف والهلع من الموت وبين البعد الفضائيّ المبنيّ على الاستعلاء والصعود العموديّ. فكلاهما متماسك ضمن المسار النهاريّ القائم على تجانس خطاطة الصعود (مقابل السقوط) ونمطها الأعلى القمّة، والنمط الأعلى للنور (مقابل الظلمة والدُّجى). ولمّا كان الظلام مكتفيًا بنفسه، في منطق الخيال كما وصفه دوران، فإنّ معنى التقابل متأتٍّ من النور الذي يصبح ضديدًا للظلام. فهو في خطاطته اللفظيّة التعبيريّة يتأسّس على ديناميّة الفصل (مقابل التداخل) والطُّهر (مقابل الدنس). فديناميّة الفصل هي التي ولّدت في القصيدة المبدأ المحرّك لها فجعلتها قائمة على الصراع (كما في استعارة ”الحياة معركة“). فالمطلوب هو فصل النهار عن الليل وفصل الحرّيّة عن القيد وفصل مصير الجماعة (المستقبل) عمّا خطّط له الزمن المهلك للإنسان (أي القدر). وجماع ذلك فصل الحياة عن الموت (العدم). وهذا هو السلوك البطوليّ الذي يميّز الخيال النهاريّ لمواجهة الخطر الليليّ والانتصار على ”القدر-الزمن-الموت.“ولئن كان النمط الأعلى الأساسيّ هو النور مقابل الظلام، من ناحية، وكان السلاح (الإرادة) مقابل الوثاق (القيد)، من ناحية ثانية، فإنّ الحاسّة المهيمنة هي حاسّة البصر45 التي تمكِّن من الفصل والتمييز. وهذه الحاسّة لا تبرز في المشاهد التي يرسمها الشاعر فحسب، ولكنّها تبرز بوضوح أكبر في صلةٍ بيّنة بالنور. فالتحوّل من السبات والجمود إلى اليقظة والحركة الدالّة على الحياة مرتبط بأمور منها إبصار الكون وصوره العذبة:إنّ نسيج الوحدات المعجميّة التي أشرنا إليها طباعيًّا بالخطّ الغليظ في هذين البيتين هو صورةٌ من النسيج التخييليّ القائم على خطاطة الصعود بواسطة أحد متعلّقات الطائر (رمز الجناح)، ونجد ترابطًا مع فعل الفصل الحادّ والتمييز القويّ في ”تصدّع“ لتنتج الصور العذبة التي تبصرها البذور ممّا يجسّد ارتفاع ”الشوق“ (الإرادة) فانتصاره. فهذان البيتان يكشفان عن علاقات منسجمة داخل النظام النهاريّ للخيال متوقّعة ضمن تصنيف دوران للمعمار العامّ لتصنيف الصور بين حاسّة الإبصار ومبدأ منطقيّ هو الإقصاء والفصل بين المتضادّين والنمط الأعلى للنور مقابل الظلمة.فلئن بدا النور لدوران بصفرته وبريقه خاصّيّةً طبيعيّة للسيف والصولجان46 فإنّ الجامع بين رمزيّة النور ورمزيّة السلاح والصولجان إنّما هو مفهوم القوّة المخلّصة والبطولة والنزوع إلى الانتصار على الزمن. ويبرز النور باعتباره نمطًا أعلى بوضوحٍ أكبر حين يمنح الربيع إلى البذور الحياةَ ويخلّدها؛ إذ يقول الشاعر:لقد تكرّر النور في هذه الأبيات الخمسة أربع مرّات (ثلاثًا بلفظه والرابعة بلفظ الضياء). وهو في سياق القصيدة دلّ على الخروج النهائيّ من الغياهب والظلام بعد أن انتصر الربيع (البيت 47). فحركة الصعود قد تحقّقت واكتمل الفصل والتمايز وتمكّن السلاح (سلاح الشوق والإرادة والطموح) من قطع الوثاق (قيود الشتاء وفعله المهلك) فانبثق النور. ولم تكن مباركة النور إلّا على سبيل تأكيد انبثاق الحياة نفسها. وهي حياة ”شباب“ و”خصب“ و”جمال خالد“ لا تفنيه صروف الزمان (”لا يبيد“) و”رحابة وجود نضر“ لذلك كانت حياة خالدة. وما الحياة هنا إلّا الحياة المنتظرة (في البيت 39) المفصولة بقوّة السلاح عن ”صفعة العدم المنتصر“ ولعنته (البيتان 4 و18) ووثاقه.إنّ هذا الترابط بين النور والحياة إلى حدّ الترادف لا يعدو أن يكون توافقًا بين الحركة المتّجهة إلى الأمام (التعبير الفضائيّ عن النموّ والتقدّم) والقائمة على الطباق (انبعاث/عدم) والناتجة من الصراع (التعارض)، من ناحية، والنزعة الفضائيّة للصعود (نحو القمّة مقابل الحفر) والاستقرار والثبات الكونيّين (الخلود) مقابل ”صروف الزمان“ وتقلّباته وفعله المهلك، من ناحية أخرى. ولمزيد التأكّد من هذه الترابطات نستحضر من القصيدة ما يتّصل بالمباركة وعكسها اللعن، فقد قالت الأرض للشاعر:فالطموح في خطاب الأرض، وهو السلاح المرادف للإرادة نصّيًّا في تحليلنا، يقوم على خطاطة الصعود، فيستدعي المباركة وما تحمله من دلالات التمجيد والرضى والتقديس والطهر. وهو من جهة تصوُّر الزمان يستدعي التقدّم والمخاطرة بالحركة ومماشاة الزمان. وبالمقابل، على اعتبار بناء التقابل، تستدعي خطاطةُ السقوط (”عيش الحفر“) والقبولُ، من جهة الزمان، بفعل الحركة المخيف المهلك، اللعنَ. ويحمل اللعن دلالات الاحتقار والإعراض والنجاسة والدنس (”ميت الطيور“ و”ميت الزهر“ والجيف في الحفر على ما هو بيّن في البيتين 16 و17). وكلّ هذا يرتبط بالمسار الليليّ.وعلى هذا تقوم بنية التقابل في أساسها العميق على تقابل المسارين النهاريّ والليليّ، لينتصر النور على الظلمة ويرتفع فوقه ويصل البطل (الشعب المريد) إلى القمّة. لذلك كانت خطاطتا الصعود والصراع متداخلتين تداخلَ تكامل وانسجام.الخاتمةبيّنّا في قسم أوّل من هذا البحث خصّصناه للنسيج الاستعاريّ في قصيدة ”إرادة الحياة“ ما يقوم بين الاستعارات الثلاث التي حلّلناها أي ”الحياة معركة“ و”الإرادة سلاح“ و”الأمل فوق“ من علاقات متداخلة في النصّ كلّه اجتمعت، على نحو من الأنحاء، في مطلع القصيدة الشهير. فالاستعارة البنيويّة الأساسيّة بيّنت الوجه التجريبيّ الذي قام على فهم للحياة باعتبارها معركةً يخوض فيها الشعب صراعًا ضدّ القدر للخروج من وضع ينتصر فيه الموت (العدم) إلى عالم منتظر يمثّل الحياة. من هنا كانت ”المعركة مصيريّة“ بما أنّها ”معركة وجود“ وإن كان الانتصار فيها و”تحقيق الهدف الأسمى“ حتميًّا حتميّة ولادة ربيع الحياة من البذور التي دفنها الشتاء. أمّا الاستعارة الأنطولوجيّة ”الإرادة سلاح“ فقد بنت داخل استعارة المعركة كيانًا مكّننا من أن نعيّن معنى الإرادة (والطموح والشوق) المجرّد؛ إذ الإرادة (ومرادفاها في النصّ) حالة ذهنيّة (نفسيّة) تقوم على الرغبة ولا تدرَك إحالتها إلّا داخل الاستعارة البنيويّة البانية لدلالة القصيدة. فيسّرت هذه الاستعارة الأنطولوجيّة ضبط السببيّة الواقعة وراء الانتصار الحتميّ في معركة الحياة ومظاهرها (استجابة القدر وانجلاء الليل وانكسار القيد). أمّا الاستعارة الاتّجاهيّة فقد قامت بدور التنسيق بين الاستعارتين السابقتين بالتركيز على الهدف من المعركة وتحديد موقع الإرادة-السلاح منها. لذلك كانت بدورها تفريعًا مقوليًّا للاستعارة البنيويّة منحها أساسًا فضائيًّا تتداخل فيه غائيّة المعركة (الحياة الحقيقيّة المنتظرة) مع نوعيّة السلاح المستعمل (تحويل الحالة النفسيّة الذهنيّة إلى نشاط وفعل في الواقع لدحر العدوّ). فصار المجرّد الضمنيّ (الغاية) والمجرّد الذهنيّ (الوسيلة) مجسّدين في بنية الاتّجاه.أمّا القسم الثاني الذي خصّصناه للبنية الخياليّة (التخييليّة) في القصيدة فقد قام على تبيُّن خصائص النظام النهاريّ فيها وما اجتمع من رموزه في أنساق ثلاثة. فبانت لنا، بدءًا، خطاطة الصعود وما يتّصل بها من طيران، وقد عبّرت عنها رموزٌ أساسيّة هي الطائر أساسًا والنحلة والفراشة أيضًا. وانتشرت في القصيدة، ثانيًا، رموز مبهرة اتّصلت بالنور والضياء قامت على حاسّة الإبصار فعبّرت عن الصراع عن طريق حركة الحياة والخروج من الظلمات (البذور تحت الضباب والثلوج والمدر) إلى ضياء النجوم والقمر ونور السماء. وتجلّت، ثالثًا، عن طريق حركة الفصل والتمايز ملامحُ من صورة السلاح مقابل الوثاق. ولئن لم تتجسّد هذه الصورة رمزيًّا في كيانات بيّنة بمسمّياتها كالسيف والسهم فإنّها ارتبطت بالقيد في مطلع القصيدة على اعتبار أنّ انكساره ضرب من انحلال وثاق ”القدر-الزمن-الموت“ المهلك يتفاعل مع صورة انجلاء الليل المؤدّي إلى الصباح والنور. ولكن تبرز في النصّ صورة دالّة على الانفصال والسلاح دلالةً قويّة هي صورة تصدُّع الأرض تمهيدًا لانبثاق البذور وظهورها. فمعنى السلاح عن طريق الفصل والتمايز حاضر في الأساس الخياليّ للقصيدة. لكنّ اللافت للانتباه أنّ هذه الرموز على اختلاف المستويات التي تتنزّل فيها (خطاطة فرموز فحركة انفصال) جاءت متداخلة منذ مطلع القصيدة وانتشرت فيها انتشارًا لم يخل بدوره من تداخل، من ناحية، وتقابل مع ما يتّصل بالنظام الليليّ وبالخصوص خطاطة السقوط في الحفر، من ناحية ثانية.ولعلّ في اجتماع الكثافتين الاستعاريّة والخياليّة في القصيدة ما يفسّر أمرين: أوّلهما اعتبار الشابّي شاعرًا وطنيًّا على الرغم من تغيّر السياقات التي تداول فيها الناس مطلع القصيدة عن سياق كتابتها. فالبنية العامّة للاستعارة ”الحياة معركة“ تقبل صراع الشعب ضدّ مفهوم القدر كما تقبل صراع الشعب ضدّ الاستبداد، فكلاهما مهلك مخيف، وفي كليهما بحث عن النور والحرّيّة. وهي استعارة ترتكز خياليًّا على مبدأ التضادّ وما ينتج عنه من صراع النور والظلمة وحركة الفصل والتمايز. ولعلّ هذا ما منح القصيدة منذ مطلعها كثافةً تجاوزت بها سياقها التاريخيّ لتتنزّل في سياقات مختلفة.ومن المفيد أن نشير هنا إلى أنّ ”الوطنيّة“ و”الثوريّة“ التي وُسم بهما بعض شعر الشابّي لا تعدوان أن تكونا انتقالًا من بطولة فرديّة شبيهة بما نجده في قصيدة الشابّي ”نشيد الجبّار“ إلى بطولة جماعيّة يمثّلها الشعب على غرار ما تضمّنته قصيدة ”إرادة الحياة.“ أمّا المنبت الاستعاريّ والأساس الخياليّ فواحدٌ مفضٍ إلى انتقال من الأمل الفرديّ إلى الأمل الجماعيّ وفق خطاطة مشتركة قوامها الصعود للارتفاع من عالم الخنوع الضيّق كالحفرة إلى عالم البطولة الرحب كالفضاء. ولنا أن نستنتج أنّ للوطنيّة أساسًا خياليًّا قوامه الترابط بين النمط الأعلى المضيء بصريًّا، والنمط الأعلى النفسيّ الاجتماعيّ للسيادة والهيمنة.والأمر الثاني الذي تفسّره الكثافة الاستعاريّة التخييليّة هو ما تضمّنه مطلع القصيدة من تفاؤل وأمل وثقة في الشعوب وقدرتها على تغيير مجرى التاريخ بالخروج الحتميّ من وضع العدم إلى وضع الحياة الحقّة وذلك بتحقيق الأماني والأحلام والظمأ إلى الوجود والكينونة والحرّيّة في عالم منتظر. فبعد ”فناء الحلم البديع“ واندثاره يكون التعلّق بـ”طيف الحياة“ و”قلب الربيع“ إلى أن ”تصبح الأحلام يقظة“ فيكون الانبعاث حتميّة (”ذخيرة عُمرٍ جميلٍ غَبَر“ كما جاء في البيت الثلاثين من القصيدة). ولهذا الجانب المتفائل أيضًا أساس خياليّ يتمثّل في قيامه على خطاطة الصعود والانتصار (مقابل خطاطة السقوط والهزيمة) واعتماده على رمزيّة السلاح مقابل الوثاق.وإذا صحّ زعمنا في الربط بين البنية التصوّريّة الاستعاريّة والبنية الخياليّة فإنّ بلاغة الأمل لا تكمن في الدلالة المعجميّة الظاهرة بقدر ما تكمن في بَنْيَنة دلالتها على أسسٍ ثلاثة هي: الاتّجاه إلى الأعلى (كما في استعارة ”الأمل فوق“ ورديفها الخياليّ ”النزعة العموديّة“) أوّلًا؛ والانتصار في الصراع (ضمن استعارة شبيهة بـ”الحياة معركة“ ورديفها الخياليّ ”الفصل بين النور والدَّيْجور“) ثانيًا؛ والعمل (من منطلق ”الإرادة والطموح والشوق سلاح“ ورديفه الخياليّ ”السلاح ضدّ الوثاق“) ثالثًا. فيكون الأمل بذلك مسارًا مبتدؤه إرادة الفعل ومنتهاه تحقّق الفعل المنشود (الانتصار) ويكون ما بينهما سعيًا إلى التجاوز والترقّي والإيمان بالتقدّم (إرادة الاستعلاء والصعود).
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote
Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
All DeepDyve websites use cookies to improve your online experience. They were placed on your computer when you launched this website. You can change your cookie settings through your browser.